الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)} قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: زينت، والأمر هنا قولهم: {إِنَّ ابنك سَرَقَ} وما سرق في الحقيقة، وقيل: المراد بالأمر إخراجهم بنيامين، والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرّة. وقيل: التسويل: التخييل، أي: خيلت لكم أنفسكم أمراً لا أصل له. وقيل: الأمر الذي سوّلت لهم أنفسهم: فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدّر كغيرها، وجملة: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل بي، وأولى لي، والصبر الجميل: هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى، بل يُفوّضُ أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أوّل الصدمة {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} أي: بيوسف وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر، وهو كبيرهم كما تقدّم، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت، وأنه باقٍ على الحياة وإن غاب عنه خبره {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي، {الحكيم} فيما يقضي به {وتولى عَنْهُمْ} أي: أعرض عنهم، وقطع الكلام معهم وقال: {يا أسفا على يوسف}. قال الزجاج: الأصل يا أسفي، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة، والأسف: شدة الجزع. وقيل: شدة الحزن، ومنه قول كثير: فيا أسفا للقلب كيف انصرافه *** وللنفس لما سليت فتسلت قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير. وقد روي عن سعيد بن جبير: أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع، والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال: {يا أسفا على يوسف}. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره، كأنه قال: تعال يا أسفي، وأقبل إليّ {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} أي: انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء. قيل: إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة. وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه: إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حيّ، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذٍ كفار. وقيل: إن مجرد الحزن ليس بمحرّم، وإنما المحرّم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزنون» ويؤيد هذا قوله: {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مكظوم، فإن معناه: أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه، من كظم السقاء: إذا سدّه على ما فيه، والكظم بفتح الظاء. مخرج النفس، يقال: أخذ بأكظامه، وقيل: الكظيم بمعنى الكاظم / أي: المشتمل على حزنه، الممسك له، ومنه: فإن أك كاظما لمصاب ناسٍ *** فإني اليوم منطلق لساني ومنه {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134]. وقال الزجاج: معنى كظيم: محزون. وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه: مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة: الحزن بالضم والسكون: البكاء، وبفتحتين: ضدّ الفرح، وقال أكثر أهل اللغة: هما لغتان: {قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل كذا، أي: مازلت. وقال الفراء: إن «لا» مضمرة، أي: لا تفتأ. قال النحاس: والذي قال صحيح. وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجاً على ما قاله: فقلت يمين الله أبرح قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ويقال: فتيء، وفتأ لغتان، ومنه قول الشاعر: فما فتئت حتى كأن غبارها *** سرادق يوم ذي رياح ترفع {حتى تَكُونَ حَرَضاً} الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والصفة المشبهة، حرض بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر: سرى همي فأمرضني *** وقدماً زادني مرضا كذاك الحب قبل اليو *** م ممَّ يورث الحرضَا وقيل: الحرض ما دون الموت، وقيل: الهرم، وقيل: الحارض: البالي الدائر. وقال الفراء: الحارض: الفاسد الجسم والعقل، وكذا الحرض. وقال مؤرج: هو الذائب من الهمّ، ويدّل عليه قول الشاعر: إني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني *** حتى بليت وحتى شفني السقم ويقال: رجل محرض، ومنه قول الشاعر: طلبته الخيل يوماً كاملا *** ولو ألفته لأضحى محرضا قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهمّ: إذا أسقمه، ورجل حارض: أي أحمق. وقال الأخفش: الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري: هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} معنى غير معنى الحرض، فالتأسيس أولى من التأكيد، ومعنى {من الهالكين}: من الميتين، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه. {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} هذه الجملة مستأنفة، كأنه قيل: فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبث: ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها، كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته، أي: فرقته، فسميت المصيبة بثاً مجازاً، قال ذو الرّمة: وقفتُ على ربَع لمية ناقتي *** فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجارُهُ ومَلاعبُه وقد ذكر المفسرون: أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً، فالبثّ على هذا: أعظم الحزن وأصعبه، وقيل: البثّ الهمّ؛ وقيل: هو الحاجة. وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البثّ واضح المعنى. وأما على تفسير البث بالحزن العظيم، فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس. وقد قرئ {حزني} بضم الحاء وسكون الزاي و«حزني» بفتحهما {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم. وقيل: أراد علمه بأن يوسف حيّ. وقيل: أراد علمه بأن رؤياه صادقة. وقيل: أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون. {يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} التحسس بمهملات: طلب الشيء بالحواس، مأخوذ من الحسّ، أو من الإحساس أي: اذهبوا فتعرّفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه. وقرئ بالجيم، وهو أيضاً التطلب {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} أي: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح. وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضاً أنه قال: الروح: الاستراحة من غمّ القلب، وقال أبو عمرو: الروح: الفرج، وقيل: الرحمة {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه، وعظيم صنعه، وخفيّ ألطافه. قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي: على يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير: فذهبوا كما أمرهم أبوهم إلى مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه، فلما دخلوا على يوسف {قَالُواْ أَيُّهَا العزيز} أي: الملك الممتنع القادر {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} أي: الجوع والحاجة، وفيه دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه، كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة، وهذه المرّة التي دخلوا فيها مصر هي المرّة الثالثة، كما يفيده ما تقدّم من سياق الكتاب العزيز {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} البضاعة هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته: إذا جعلته بضاعة. وفي المثل: كمستبضع التمر إلى هجر. والإزجاء: السوق بدفع. قال الواحدي: الإزجاء في اللغة: السوق والدفع قليلاً قليلاً، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً} [النور: 43]، والمعنى: أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار. قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. قال أبو عبيدة: إنما قيل للدراهم الرديئة: مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة. واختلف في هذه البضاعة ما هي؟ فقيل: كانت قديداً وحيساً، وقيل: صوف وسمن، وقيل: الحبة الخضراء والصنوبر، وقيل: دراهم رديئة، وقيل: النعال والأدم. ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل، أي: يجعله تاماً لا نقص فيه، وطلبوا منه أن يتصدّق عليهم إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم، أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها، وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها، وبهذا قال أكثر المفسرين. وقد قيل: كيف يطلبون التصدّق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرّمة على الأنبياء. وأجيب باختصاص ذلك بنبينا صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} بما يجعله لهم من الثواب الأخروي، أو التوسيع عليهم في الدنيا. وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} قال: يوسف وأخيه وروبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يوسف وأخيه وكبيرهم الذي تخلف، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: {يا أسفا على يُوسُفَ} قال: يا حزناً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرجوا عن مجاهد قال: يا جزعاً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فَهُوَ كَظِيمٌ} قال: حزين. وأخرج ابن المبارك، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة قال: كظم على الحزن فلم يقل إلاّ خيراً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كظيم مكروب. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الضحاك قال: الكظيم: الكمد. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} قال: لا تزال تذكر يوسف {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال: دنفاً من المرض. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} قال: الميتين. وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} قال: لا تزال تذكر يوسف {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال: هرماً {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} قال: أو تموت. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الضحاك {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال: الحرض: البالي {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} قال: من الميتين. وأخرج ابن جرير، وعبد الرزاق عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من بث لم يصبر،» ثم قرأ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} وأخرج ابن منده في المعرفة عن مسلم بن يسار عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج ابن مردويه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً مثله. وأخرجه ابن المنذر، وابن مردويه عن عبد الرحمن بن يعمر مرفوعاً مرسلاً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى} قال: همي. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في قوله: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} قال: من رحمة الله. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: من فرج الله يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} قال: أي الضرّ في المعيشة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بِبِضَاعَةٍ} قال: دراهم {مُّزْجَاةٍ} قال: كاسدة. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال: {مزجاة} رثة المتاع، خلقة الحبل والغرارة والشيء. وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضاً {مزجاة} قال: الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} قال: أردد علينا أخانا.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)} الاستفهام في قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} للتوبيخ والتقريع، وقد كانوا عالمين بذلك، ولكنه أراد ما ذكرناه، ويستفاد منه تعظيم الواقعة لكونه في قوّة: ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وأخيه، وما أقبح ما أقدمتم عليه؟ كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت؟ والذي فعلوا بيوسف هو ما تقدّم مما قصه الله سبحانه علينا في هذه السورة، وأما ما فعلوا بأخيه، فقال جماعة من المفسرين: هو ما أدخلوه عليه من الغمّ بفراق أخيه يوسف، وما كان يناله منهم من الاحتقار والإهانة، ولم يستفهمهم عما فعلوا بأبيهم يعقوب، مع أنه قد ناله منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف الأذى. قال الواحدي: ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغمّ بفراقه تعظيماً له، ورفعاً من قدره، وعلماً بأن ذلك كان بلاء له من الله عزّ وجلّ ليزيد في درجته عنده {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} نفى عنهم العلم، وأثبت لهم صفة الجهل، لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم، وقيل: إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم، وتخفيف الأمر عليهم، فكأنه قال: إنما أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم، وقصور معارفكم عن عاقبته، وما يترتب عليه، أو أراد عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر، اعتذاراً لهم، لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كباراً. {قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ}. قرأ ابن كثير «إنك» على الخبر بدون استفهام. وقرأ الباقون على الاستفهام التقريري، وكان ذلك منهم على طريق التعجب والاستغراب. قيل: سبب معرفتهم له بمجرد قوله لهم: {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلاّ هو. وقيل: إنه لما قال لهم بهذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه. وقيل: إنه تبسم فعرفوا ثناياه {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى} أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه. قال ابن الأنباري: أظهر الاسم فقال: أنا يوسف، ولم يقل: أنا هو، تعظيماً لما وقع به من ظلم إخوته، كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم، والمراد قتله. فاكتفى بإظهار الاسم عن هذه المعاني، وقال: وهذا أخي مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه؛ لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي، {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل: منّ الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة. وقيل: بالجمع بيننا بعد التفرق، ولا مانع من إرادة جميع ذلك {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ}. قرأ الجمهور بالجزم على أن «من» شرطية. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في يتقي. كما في قول الشاعر: ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبونُ بني زياد وقيل إنه جعل «من» موصولة لا شرطية، وهو بعيد. والمعنى: إنه من يفعل التقوى أو يفعل ما يقيه عن الذنوب ويصبر على المصائب {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} على العموم، فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولاً أوّلياً، وجاء بالظاهر، وكان المقام مقام المضمر، أي: أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان {قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي: لقد اختارك وفضلك علينا بما خصك به من صفات الكمال، وهذا اعتراف منهم بفضله وعظيم قدره، ولا يلزم من ذلك ألا يكونوا أنبياء، فإن درج الأنبياء متفاوتة، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] {وَإِن كُنَّا لخاطئين} أي: وإن الشأن ذلك. قال أبو عبيدة: خطئ وأخطأ بمعنى واحد. وقال الأزهري: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، ومنه قولهم: المجتهد يخطئ ويصيب، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلاباً لعفوه واستجذاباً لصفحه. {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} التثريب التعيير والتوبيخ أي: لا تعيير ولا توبيخ، ولا لوم عليكم. قال الأصمعي: ثربت عليه: قبحت عليه فعله. وقال الزجاج: المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوّة، ولكم عندي الصلح والعفو، وأصل التثريب: الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز. وقال ابن الأنباري: معناه. قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب. قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدّد عليه ذنوبه، وأصل التثريب من الثرب، وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه: إزالة التثريب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، وانتصاب {اليوم} بالتثريب، أي: لا أثرب عليكم أو منتصب بالعامل المقدّر في {عليكم} وهو مستقرّ أو ثابت أو نحوهما، أي: لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم. وقد جوّز الأخفش الوقف على {عليكم} فيكون: اليوم متعلق بالفعل الذي بعده. وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري، ثم دعا لهم بقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} على تقدير الوقف على اليوم، أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على {اليوم}، أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على {عليكم} {وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم فيجازي محسنهم ويغفر لمسيئهم. قوله: {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} قيل: هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار وكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب. وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قضيب وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره؛ لأنّ فيه ريح الجنة، وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفي، ولا مبتلي إلاّ عوفي {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} أي: يصْر بصيراً، على أن {يأت} هي التي من أخوات كان. قال الفراء: يرجع بصيراً. وقال السدّي: يعد بصيراً. وقيل: معناه يأتِ إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى، ويؤيده قوله: {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: جميع من شمله لفظ الأهل من النساء والذراري، وقيل: كانوا نحو سبعين، وقيل: ثلاثة وتسعين. {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} أي: خرجت منطلقة من مصر إلى الشام. يقال: فصل فصولاً، وفصلته فصلاً، لازم ومتعدّ، ويقال: فصل من البلد فصولاً: إذا انفصل عنه وجاوز حيطانه {قَالَ أَبُوهُمْ} أي: يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} قيل: إنها هاجت ريح فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة، فأخبرهم بما وجد، ثم قال: {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} لولا أن تنسبوني إلى الفند، وهو ذهاب العقل من الهرم، يقال: أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وقال أبو عبيدة: لولا أن تسفهون، فجعل الفند السفه. وقال الزجاج: لولا أن تجهلون، فجعل الفند الجهل، ويؤيد ذلك قول من قال: إنه السفه قول النابغة: إلاّ سليمان إذ قال المليك له *** قم في البرية فاحددها عن الفند أي: امنعها عن السفه. وقال أبو عمرو الشيباني: التفنيد: التقبيح، ومنه قول الشاعر: يا صاحبيّ دعا لومي وَتَفنيدي *** فليس ما فات من أمري بمردود وقيل: هو الكذب، ومنه قول الشاعر: هل في افتخار الكريم من أود؟ *** أم هل لقول الصدّيق من فند؟ وقال ابن الأعرابي: {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} لولا أن تضعفوا رأيي، وروي مثله عن أبي عبيدة. وقال الأخفش: التفنيد: اللوم وضعف الرأي. وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز، وتضعيف الرأي، يقال: فنده تفنيداً: إذا عجزه، وأفند: إذا تكلم بالخطأ، والفند: الخطأ من الكلام، ومما يدل على إطلاقه على اللوم قول الشاعر: يا عاذِلي دعا الملام وأَقصِرا *** طال الهوى وَأطلتُما التفنيدا أخبرهم يعقوب بأن الصبا قد حملت إليه ريح حبيبه، وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك: فإن الصبا ريح إذا ما تنفست *** على نفس مهموم تجلت همومها إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني *** نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر ولقد تهبّ لي الصبا من أرضها *** فيلذّ مسّ هبوبها ويطيب {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} أي: قال الحاضرون عنده من أهله: إنك يا يعقوب لفي ذهابك عن طريق الصواب الذي كنت عليه قديماً من إفراط حبك ليوسف لا تنساه، ولا تفترّ عنه، ولسان حال يعقوب يقول لهم: لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده *** ولا الصبابة إلاّ من يعانيها لا تعذل المشتاق في أشواقه *** حتى تكون حشاك في أحشائه وقيل: المعنى: إنك لفي جنونك القديم، وقيل: في محبتك القديمة. قالوا له ذلك لأنه لم يكن قد بلغهم قدوم البشير. {فَلَمَّا أَن جَاء البشير} قال المفسرون: البشير هو يهوذا بن يعقوب، قال لإخوته: أنا جئته بالقميص ملطخاً بالدم، فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حيّ، فأفرحه كما أحزنته {أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} أي: ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فارتد بَصِيرًا} الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} أي: قال يعقوب لمن كان عنده من أهله الذين قال لهم: إني لأجد ريح يوسف، ألم أقل لكم هذا القول فقلتم ما قلتم، ويكون قوله: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} كلاماً مبتدأ لا يتعلق بالقول، ويجوز أن تكون جملة: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} مقول القول، ويريد بذلك إخبارهم بما قاله لهم سابقاً {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]، {قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين} طلبوا منه أن يستغفر لهم، واعترفوا بالذنب، وفي الكلام حذف، والتقدير: ولما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم قالوا هذا القول، فوعدهم بما طلبوه منه، و{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى}. قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار، وقيل: أخره إلى ليلة الجمعة، وقيل: أخره إلى أن يستحلّ لهم من يوسف، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم. وجملة {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} تعليل لما قبله. وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة في قوله: {لاَ تَثْرَيبَ} قال: لا تعيير. وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التفت إلى الناس فقال: «ماذا تقولون وماذا تظنون؟ فقالوا: ابن عمّ كريم، فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألم تر إلى قول يوسف {لا تثريب عليكم اليوم}؟. وقال يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى}. أقول: وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف أن يعفو عنهم بقولهم: {لقد آثرك الله علينا}، فقال: لا تثريب عليكم اليوم، لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم، وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو لا يكون إلاّ بطلب ذلك منه إلى الله عزّ وجلّ، وبين المقامين فرق، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلاً عليهم بسؤال الله لهم، ولا سيما إذا صح ما تقدّم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة. فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول. وأخرج الحكيم الترمذي، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما كان من أمر إخوة يوسف ما كان، كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء، كان جدّي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه، فجعلها الله عليه برداً وسلاما، وأمر الله جدّي أن يذبح له أبي ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن وكان من أحبّ الناس إليّ ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب عني بعض وجدي، وهوالمحبوس عندك في السرقة، وإني أخبرك أني لم أسرق، ولم ألد سارقاً؛ فلما قرأ يوسف الكتاب بكى وصاح وقال: {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا}. وأخرج أبو الشيخ عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: «{اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} أن نمروذ لما ألقى إبراهيم في النار نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة، فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة، وقعد معه يتحدّث، فأوحى الله إلى النار {كُونِى بَرْداً وسلاما} [الأنبياء: 69]» ولولا أنه قال {وسلاماً} لآذاه البرد. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً: إن الله كسا إبراهيم ثوباً من الجنة، فكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، فأخذه يعقوب فجعله في قصبة من حديد وعلقه في عنق يوسف، ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه، فلما أراد الله أن يردّ يوسف على يعقوب كان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة، أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل، فوجد يعقوب ريحه فقال: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}، فلما ألقاه على وجهه ارتدّ بصيراً، وليس يقع شيء من الجنة على عامة من عاهات الدنيا إلاّ أبرأها بإذن الله. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وأحمد في الزهد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} قال: لما خرجت العير هاجت الريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} تسفهون، فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه قال: وجد ريحه من مسيرة عشرة أيام. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عنه قال: وجده من مسيرة ثمانين فرسخاً. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضاً {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} قال: تجهلون. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً: قال: تكذبون. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: تهرمون، يقولون: قد ذهب عقلك. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الربيع قال: لولا أن تحمقون. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} يقول: خطئك القديم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جنونك القديم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: حبك القديم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: البشير: البريد. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سفيان قال: البشير هو يهوذا بن يعقوب. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال: على أيّ دين خلفت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود في قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} قال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر. وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: أخرهم إلى السحر، وكان يصلي بالسحر. وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عنه قال: أخرّهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصه " هو قول أخي يعقوب لبنيه: سوف أستغفر لكم ربي»، يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة ".
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} لعلّ في الكلام محذوفاً مقدّراً، وهو: فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه، أي: ضمهما وأنزلهما عنده، قال المفسرون: المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف؛ لأن أمه قد كانت ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين، كما تقدّم. وقيل: أحيا الله له أمه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له {وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله آمنين} مما تكرهون، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلاّ بجواز منهم. قيل: والتقييد بالمشيئة عائد إلى الأمن، ولا مانع من عوده إلى الجميع؛ لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه، كما أنهم لا يكونون آمنين إلاّ بمشيئته. وقيل: إن التقييد بالمشيئة راجع إلى قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} وهو بعيد، وظاهر النظم القرآني: أن يوسف قال لهم هذه المقالة، أي: ادخلوا مصر قبل دخولهم، وقد قيل في توجيه ذلك: أنه تلقاهم إلى خارج مصر، فوقف منتظراً لهم في مكان أو خيمة، فدخلوا عليه ف {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ} فلما دخلوا مصر ودخلوا عليه دخولاً أخر في المكان الذي له بمصر {رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} أي: أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك. {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا} أي: الأبوان والأخوة، والمعنى: أنهم خرّوا ليوسف سجداً، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم منزلاً منزلة التحية. وقيل: لم يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد إيماء، وكانت تلك تحيتهم، وهو يخالف معنى: وخرّوا له سجداً، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلاّ بوضع الوجه على الأرض. وقيل: الضمير في قوله: {له} راجع إلى الله سبحانه، أي: وخرّوا لله سجداً، وهو بعيد جداً. وقيل: إن الضمير ليوسف، واللام للتعليل أي: وخرّوا لأجله سجداً، وفيه أيضاً بعد؛ وقال يوسف: {يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياى} يعني: التي تقدّم ذكرها {مِن قَبْلُ} أي: من قبل هذا الوقت {قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا} بوقوع تأويلها على ما دلت عليه {وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن} الأصل أن يتعدّى فعل الإحسان بإلى، وقد يتعدّى بالباء كما في قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23]، وقيل: إنه ضمن أحسن معنى لطف أي: لطف بي محسناً، ولم يذكر إخراجه من الجبّ، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة، وقد قال: لا تثريب عليكم. وقد تقدّم سبب سجنه ومدّة بقائه فيه، وقد قيل: إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجبّ أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجبّ، وفيه نظر، {وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو} أي: البادية، وهي أرض كنعان بالشام، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل: إن الله لم يبعث نبياً من البادية، وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له: بدا، وإياه عني جميل بقوله: وأنت الذي حببت شعباً إلى بدا *** إليّ وأوطاني بلاد سواهما وفيه نظر، {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} أي: أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض، يقال: نزغه: إذا نخسه، فأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها. وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدّباً {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} اللطيف: الرفيق، قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله تعالى معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف: إذا رفق به، وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف: الذي يوصل إليك أربك في لطف. قال الخطابي: اللطيف هو البرّ بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. وقيل: اللطيف: العالم بدقائق الأمور. ومعنى {لما يشاء}: لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} أي: العليم بالأمور، الحكيم في أفعاله. ولما أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام بما أخلصه منه من المحن العظيمة، وبما خوّله من الملك، وعلمه من العلم، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع، فقال: {رَبّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الملك} «من» للتبعيض، أي: بعض الملك، لأنه لم يؤت كل الملك، إنما أوتي ملكاً خاصاً، وهو ملك مصر في زمن خاص {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي: بعضها، لأنه لم يؤت جميع علم التأويل، سواء أريد به مطلق العلم والفهم، أو مجرد تأويل الرؤيا. وقيل: «من» للجنس، كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]. وقيل: زائدة أي: آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث {فَاطِرَ السموات والأرض} منتصب على أنه صفة لربّ، لكونه منادى مضافاً، ويجوز أن يكون انتصابه على أنه منادى بحرف مقدّر، أي: يا فاطر، والفاطر: الخالق والمنشئ والمخترع والمبدع {أنت وليى} أي: ناصري ومتولي أموري {فِى الدنيا والآخرة} تتولانى فيهما {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} أي: توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، وألحقني بالصالحين من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك. وقيل: إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عزّ وجلّ. وقيل: كان عمره عند أن ألقي في الجبّ سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب عليه، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله. قيل: لم يتمنّ الموت أحد غير يوسف لا نبيّ ولا غيره. وذهب الجمهور إلى أنه لم يتمنّ الموت بهذا الدعاء، وإنما دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام، ويلحقه بالصالحين من عباده عند حضور أجله. وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: دخل يعقوب مصر في ملك يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة، وعاش في ملكه ثلاثين سنة، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. قال أبو هريرة: وبلغني أنه كان عمر إبراهيم خليل الله مائة وخمساً وتسعين سنة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {آوى إليه أبويه} قال: أبوه وأمه ضمهما. وأخرجا عن وهب قال: أبوه وخالته، وكانت توفيت أمّ يوسف في نفاس أخيه بنيامين. وأخرج أبو الشيخ نحوه عن سفيان بن عيينة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} قال: السرير. وأخرج ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم في قوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا} قال: كانت تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: ذلك سجود تشرفة كما سجدت الملائكة تشرفة لآدم، وليس سجود عبادة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} قال: لطيف ليوسف، وصنع له حين أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما سأل نبيّ الوفاة غير يوسف. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عنه قال: اشتاق إلى لقاء الله، وأحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه، وأن يلحقه بهم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} قال: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: يعني أهل الجنة.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} الخطاب بقوله: {ذلك} لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره {مِنْ أَنبَاء الغيب}، و{نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبر ثان. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذلك بمعنى: الذي، ونوحيه إليك خبره أي: الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك. والمعنى: الإخبار من الله تعالى لرسوله الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوحاه الله إليه وأعلمه به، ولم يكن عنده قبل الوحي شيء من ذلك، وفيه تعريض بكفار قريش، لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وسلم بما جاء به جحوداً وعناداً وحسداً، مع كونهم يعلمون حقيقة الحال {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} لدي إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} إجماع الأمر: العزم عليه، أي: وما كنت لدى إخوة يوسف إذ عزموا جميعاً على إلقائه في الجبّ وهم في تلك الحالة {يَمْكُرُونَ} به، أي: بيوسف في هذا الفعل الذي فعلوه به، ويبغونه الغوائل، وقيل: الضمير ليعقوب، أي: يمكرون بيعقوب حين جاءوه بقميص يوسف ملطخاً بالدم، وقالوا: أكله الذئب. وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك، انتفى علمه بذلك مشاهدة، ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة، ولا خالطهم ولا خالطوه، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير، فلم يبق لعلمه بذلك طريق إلاّ مجردّ الوحي من الله سبحانه، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار، قال الله سبحانه ذاكراً لهذا {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد، أو أكثر الناس على العموم، ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في ذلك بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم، يقال: حرص يحرص مثل ضرب يضرب، وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد، والحرص: طلب الشيء باجتهاد. قال الزجاج: ومعناه: وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم؛ لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. قال ابن الأنباري: إن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما شرحاً شافياً، وهو يأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا ظنه، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فعزاه الله بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ الناس} الآية. {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي: على القرآن وما تتلوه عليهم منه، أو على الإيمان، وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدّثهم به من هذا الحديث {من أجر} من مال يعطونك إياه، ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم {إِنْ هُوَ} أي: القرآن، أو الحديث الذي حدثهم به {إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} أي: ما هو إلاّ ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم. {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السموات والأرض} قال الخليل وسيبويه: والأكثرون إن {كأين} أصلها: أي دخل عليها كاف التشبيه، لكنه انمحى عن الحرفين المعنى الإفرادي، وصار المجموع كاسم واحد بمعنى «كم» الخبرية، والأكثر إدخال «من» في مميزه، وهو تمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً. وقد مرّ الكلام على هذا مستوفى في آل عمران. والمعنى: كم من آية تدلهم على توحيد الله كائنة في السموات من كونها منصوبة بغير عمد، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت، وفي الأرض من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه، وأنه الخالق لذلك، الرزاق له، المحيي والمميت، ولكن أكثر الناس يمرّون على هذه الآيات غير متأملين لها، ولا مفكرين فيها، ولا ملتفتين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة، وهي التفكر والاعتبار والاستدلال. وقرأ عكرمة وعمرو بن فايد برفع {الأرض} على أنه مبتدأ، وخبره {يمرّون عليها}. وقرأ السدّي بنصب {الأرض} بتقدير فعل. وقرأ ابن مسعود «يمشون عليها» {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} أي: وما يصدّق ويقرّ أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق المحيي المميت {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} بالله يعبدون معه غيره، كما كانت تفعله الجاهلية، فإنهم مقرّون بالله سبحانه، وبأنه الخالق لهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقرّبوهم إلى الله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله} [الزمر: 3] ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه كما يفعله كثير من عبّاد القبور، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ لا بما يفيده السبب من الاختصاص بمن كان سبباً لنزول الحكم. {أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} الاستفهام للإنكار، والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله تعالى: {يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] وقيل: هي الساعة، وقيل: هي الصواعق والقوارع، ولا مانع من للحمل على العموم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} أي: فجأة، وانتصاب بغتة على الحال. قال المبرد: جاء عن العرب حال بعد نكرة، وهو قولهم: وقع أمر بغتة، يقال: بغتهم الأمر بغتاً وبغتة: إذا فاجأهم {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه، ويجوز انتصاب بغتة على أنها صفة مصدر محذوف. {قُلْ هذه سَبِيلِى} أي: قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها سبيلي، أي: طريقتي وسنّتي، فاسم الإشارة مبتدأ وخبره سبيلي، وفسر ذلك بقوله: {ادعوا إلى الله على بَصِيرَةٍ} أي: على حجة واضحة، والبصيرة: المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل، والجملة في محل نصب على الحال {أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى} واهتدى بهديي. وقال الفراء: والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله، أي: الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده، والعمل بما شرعه لعباده {وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} أي: وقل يا محمد لهم: سبحان الله وما أنا من المشركين بالله الذين يتخذون من دونه أنداداً. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: {ادعوا إِلَى الله} ثم ابتدأ، فقال: {على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى}. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} قال: هم بنو يعقوب إذ يمكرون بيوسف. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية يقول: وما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب، وهم يمكرون بيوسف. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ} قال: كم من آية في السماء يعني: شمسها وقمرها ونجومها وسحابها، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: سلهم من خلقهم، ومن خلق السموات والأرض، فسيقولون الله، فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن عطاء في قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: كانوا يعلمون أن الله ربهم وهو خالقهم وهو رازقهم، وكانوا مع ذلك يشركون. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال: كانوا يشركون به في تلبيتهم يقولون: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في الآية قال: ذلك المنافق يعمل بالرياء وهو مشرك بعمله. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} قال: وقيعة تغشاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هذه سَبِيلِى} قل: هذه دعوتي. وأخرج أبو الشيخ عنه {قُلْ هذه سَبِيلِى} قال: صلاتي. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال: أمري ومشيئتي ومنهاجي، وأخرجا عن قتادة في قوله: {على بَصِيرَةٍ} أي: على هدى {أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى}.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} هذا رد على من قال: {لَوْلا أُنزِلَ عليه مَلَكٌ} [الأنعام: 8] أي: لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلهم إلا رجالاً لا ملائكة. فكيف ينكرون إرسالنا إياك؟ وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبياً من النساء ولا من الجنّ، وهذا يردّ على من قال: إن في النساء أربع نبيات: حواء، وآسية، وأم موسى، ومريم. وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب، حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها *** وأصبحت أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والأقوام كلهم *** على سجاح ومن باللوم أغرانا {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما نوحي إليك {مّنْ أَهْلِ القرى} أي: المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو، ولكون أهل الأمصار أتم عقلاً وأكمل حلماً وأجلّ فضلاً {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني: المشركين المنكرين لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أي: أفلم يسر المشركون هؤلاء فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا} أي: لدار الساعة الآخرة، أو لحالة الآخرة على حذف الموصوف. وقال الفراء: إن الدار هي الآخرة، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة، وصلاة الأولى، ومسجد الجامع، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب، والمراد بهذه الدار: الجنة، أي: هي خير للمتقين من دار الدنيا. وقرئ «وللدار الآخرة». وقرأ نافع وعاصم ويعقوب {أفلا تعقلون} بالتاء الفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية. {حتى إِذَا استيئس الرسل} هذه الغاية المحذوف دلّ عليه الكلام، وتقديره: {وما أرسلنا من قبلك} يا محمد إلاّ رجالاً، ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا بالعقوبة {حتى إِذَا استيئس} من النصر بعقوبة قومهم، أو {حتى إذ استيأس الرسل} من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ}. قرأ ابن عباس، وابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر بن القعقاع، والحسن، وقتادة، وأبو رجاء العطاردي، وعاصم وحمزة والكسائي، ويحيى بن وثاب، والأعمش وخلف {كذبوا} بالتخفيف أي: ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا. وقيل: المعنى ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، وقيل: المعنى وظنّ الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر، وقرأ الباقون «كذبوا» بالتشديد، والمعنى عليها واضح أي: ظنّ الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظنّ القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد. وقرأ مجاهد وحميد {قد كذبوا} بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى: وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا؛ وقد قيل: إن الظنّ في هذه الآية بمعنى اليقين؛ لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظنّ منهم. والذي ينبغي أن يفسر الظنّ باليقين في مثل هذه الصورة يفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظنّ فقط من الصور السابقة. {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} أي: فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة، أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين {فنجي مَّن نَّشَاء}. قرأ عاصم: {فنجي} بنون واحدة. وقرأ الباقون «فننجي» بنونين. واختار أبو عبيدة القراءة الأولى؛ لأنها في مصحف عثمان كذلك. وقرأ ابن محيصن «فنجا» على البناء للفاعل، فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها فاعل، والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم، وهلك المكذبون {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} عند نزوله بهم، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين. {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} أي: قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه {عِبْرَةٌ لاّوْلِى الألباب} والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل: هي نوع من الاعتبار، وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول. وأولوا الألباب: هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدّة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى} أي: ما كان هذا المقصوص الذي يدلّ عليه ذكر القصص وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثاً يفترى {ولكن تَصْدِيقَ الذين بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: ما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور. وقرئ برفع «تصديق» على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو تصديق وتفصيل كل شيء من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها؛ لأن الله سبحانه لم يفرّط في الكتاب من شيء. وقيل: تفصيل كل شيء من قصة يوسف مع إخوته وأبيه. قيل: وليس المراد به ما يقتضيه من العموم، بل المراد به الأصول والقوانين وما يئول إليها {وهدى} في الدنيا يهتدي به كل من أراد الله هدايته {وَرَحْمَةً} في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه شرط الإيمان الصحيح، ولهذا قال: {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدّقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى، فلا يستحق ما يستحقونه. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} قال: أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط إلاّ من أهل القرى، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} قال: كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط، وقوم صالح، والأمم التي عذب الله؟ وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة؛ أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ يعني: على هذه الكلمة مخففة أم مشددة، فقالت: بل كذبوا تعني بالتشديد. قلت: والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت: لعلها، وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة، قالت: معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عبد الله بن أبي مليكة: أن ابن عباس قرأها عليه {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخففة، يقول: أخلفوا. وقال ابن عباس: كانوا بشراً، وتلا {حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] قال ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت: ما وعد الله رسوله من شيء إلاّ علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت تقرؤها مثقلة. وأخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخففة. وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ {قد كذبوا} مخففة. قال: يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظنّ قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاءوا به {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} قال: جاء الرسل نصرنا. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ عن تميم بن حذلهم قال: قرأت على ابن مسعود القرآن فلم يأخذ عليّ إلاّ حرفين {كُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} [النمل: 87] فقال: أتوه مخففة، وقرأت عليه {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} فقال: {كذبوا} مخففة. قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظنّ قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة يوسف {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} خفيفة. وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {درجات مَّن نَّشَاء} قال: فننجي الرسل ومن نشاء {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم، فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ومن عصاه عذب وغوى. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن السدّي {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} قال: عذابه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} قال: يوسف وإخوته. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ {عِبْرَةٌ لأَوْلِى الألباب} قال: معروفة لذوي العقول. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة {مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى} قال: الفرية: الكذب. {ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} قال: القرآن يصدّق الكتب التي كانت قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور، ويصدّق ذلك كله، ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله {وَتَفْصِيلَ كُلّ شَئ} فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} قوله: {المر} قد تقدّم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف. أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده، والتقدير على الأول: هذه السورة اسمها هذا، والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب: السورة أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، ويكون قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} مراداً به القرآن كله، أي: هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة، أو تكون الإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن. ويكون قوله: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق. قال الفراء: {والذي} رفع بالاستئناف وخبره {الحق}، قال: وإن شئت جعلت {الذي} خفضَا نعتاً للكتاب، وإن كانت فيه الواو كما في قوله: إلى الملكَ القرمِ وابن الهمامِ *** ويجوز أن يكون محل {والذي أنزل إليك} الجرّ على تقدير: وآيات الذي أنزل إليك، فيكون الحق على هذا خبراً لمبتدأ محذوف {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بهذا الحق الذي أنزله الله عليك. قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال: {الله الذى رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} والعمد: الأساطين جمع عماد أي: قائمات بغير عمد تعتمد عليه، وقيل لها عمد ولكن لا نراه. قال الزجاج: العمد: قدرته التي يمسك بها السموات، وهي غير مرئية لنا، وقرئ «عمد» على أنه جمع عمود يعمد به، أي: يسند إليه. قال النابغة: وخبر الجنّ إني قد أذنت لهم *** يبنون تدمر بالصفاح والعمد وجملة {ترونها} مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك. وقيل: هي صفة لعمد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: رفع السموات ترونها بغير عمد، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: استولى عليه بالحفظ والتدبير، أو استوى أمره، أو أقبل على خلق العرش، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرّر في موضعه من علم الكلام: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي: ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق، ومصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى} أي كلّ من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم: وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكوّر عندها الشمس ويخسف القمر، وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل: المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها، وهي سنة للشمس، وشهر للقمر {يُدَبّرُ الأمر} أي: يصرّفه على ما يريد، وهو أمر ملكوته وربوبيته {يُفَصّلُ الآيات} أي: يبينها، وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته، ومنها ما تقدّم من رفع السماء بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى، والجملتان في محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله: {الله الذى رَفَعَ} على أن الموصول صفة للمبتدأ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة، ولذا قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ} أي: لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه، ولا تمترون في صدقه. ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: {وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض} قال الفراء: بسطها طولاً وعرضاً. وقال الأصمّ: إن المدّ: هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} أي: جبالاً ثوابت، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها، أي: تثبت. والإرساء: الثبوت. قال عنترة: فصرت عارفة لذلك حرّة *** ترسو إذا نفس الجبانِ تطلع وقال جميل: أُحبها والذي أرسى قواعِده *** حتى إذا ظَهرت آياتُه بطنا {وأنهارا} أي: مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء {وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده، أي: جعل فيها من كل الثمرات {زوجين اثنين}، الزوج يطلق على الاثنين، وعلى الواحد المزاوج لآخر، والمراد هنا بالزوج الواحد، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفي، أي: جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين، إما في اللونية: كالبياض والسواد ونحوهما، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما، أو في القدر كالصغر والكبر، أو في الكيفية كالحر والبرد. قال الفراء: يعني بالزوجين هنا: الذكر والأنثى. والأول أولى {يغشى الليل النهار} أي: يلبسه مكانه، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً، شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيما ذكر من مدّ الأرض وإثباتها بالجبال، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة. وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين. {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات. قيل: وفي الكلام حذف، أي: قطع متجاورت، وغير متجاورات، كما في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: وتقيكم البرد. قيل: والمتجاورات: المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات: الصحارى وما كان غير عامر، وقيل: المعنى: متجاورات متدانيات، ترابها واحد وماؤها واحد. وفيها زرع وجنات، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر {وجنات مّنْ أعناب} والجنات: البساتين، قرأ الجمهور برفع {جنات} على تقدير: وفي الأرض جنات، فهو معطوف على قطع متجاورات، أو على تقدير: وبينها جنات. وقرأ الحسن بالنصب على تقدير: وجعل فيها جنات، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل؛ لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32]. {صنوان وَغَيْرُ صنوان}، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص {وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} برفع هذه الأربع عطفاً على جنات، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على أعناب. وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان. وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان. قال أبو عبيدة: صنوان: جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً، ثم يتفرع فيصير نخلاً، ثم يحمل، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير. قال ابن الأعرابي: الصنو: المثل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه»، فمعنى الآية على هذا: أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون. قال في الكشاف: والصنوان جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر: صنوان، والصنو: المثل، ولا فرق بين التثنية والجمع إلاّ بكسر النون في المثنى، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع. {يسقى بِمَاء واحد}، قرأ عاصم وابن عامر: {يسقى} بالتحتية، أي: يسقى ذلك كله. وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو، قال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل} ولم يقل: بعضه. وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالتحتية كما في قوله: {يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات} [الرعد: 2] وقرأ الباقون بالنون على تقدير: ونحن نفضل. وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل؛ فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين: إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً، وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحداً، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولهذا قال الله سبحانه: {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات. وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {المر} قال: أنا الله أرى. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن مجاهد {المر} فواتح يفتتح بها كلامه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {تِلْكَ ءايات الكتاب} قال: التوراة والإنجيل {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} قال: القرآن. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة نحو. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} قال: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها. وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ عنه في الآية قال: يقول لها عمد ولكن لا ترونها يعني: الأعماد. وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك، كل زاوية موكل بها ملك. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ في قوله: {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} قال: الدنيا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يُدَبّرُ الأمر} قال: يقضيه وحده. وأخرج. ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، أربعمائة خراب، ومائة عمران، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة. وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت. وقالت: أي ربّ، تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم ترجرج. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {يغشى الليل النهار} أي: يلبس الليل النهار. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبوالشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها، تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج، وهما أرض واحدة، وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب، ففضلت إحداهما على الأخرى. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: قرئ «متجاورات» قريب بعضها من بعض. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: الأرض تنبت حلواً، والأرض تنبت حامضاً، وهي متجاورات تسقى بماء واحد. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله: {صنوان وَغَيْرُ صنوان} قال: الصنوان: ما كان أصله واحداً وهو متفرّق، {وغير صنوان} التي تنبت وحدها، وفي لفظ: صنوان: النخلة في النخلة ملتصقة، وغير صنوان: النخل المتفرق. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {صنوان} قال: مجتمع النخل في أصل واحد {وَغَيْرُ صنوان} قال: النخل المتفرّق. وأخرج الترمذي وحسنه، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي في قوله: {وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل} قال: «الدقل، والفارسي، والحلو، والحامض». وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هذا حامض، وهذا حلو، وهذا دقل، وهذا فارسي.
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه. قال الزجاج: أي هذا موضوع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة. وقيل: الآية في منكري الصانع، أي: إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بدّ له من مغير، فهو محل التعجب، والأول أولى لقوله: {أإذا كنا تراباً أئنا لفى خلق جديد} وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من {قولهم}، ويجوز أن تكون في محل نصب على أنها مقول القول، والعجب على الأول كلامهم، وعلى الثاني تكلمهم بذلك، والعامل في «أإذا» ما يفيده قوله: {أإنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعث أو نعاد، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد، وتقديم الظرف في قوله: {لَفِى خَلْقٍ} لتأكيد الإنكار بالبعث، وكذلك تكرير الهمزة في قوله: " أإنا ". ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} أي: أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث: هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه، والثاني {وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم} الأغلال: جمع غلّ، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق، أي: يغلون بها يوم القيامة، وقيل: الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق. والثالث: {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} السيئة: العقوبة المهلكة، والحسنة: العافية والسلامة. قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدّة تصميمهم وتهالكهم على الكفر. وقيل: معنى الآية: أنهم طلبوا العقوبة قبل الحسنة، وهي الإيمان {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات}. قرأ الجمهور " مثُلات " بفتح الميم وضمّ المثلثة جمع مثلة كسمرة، وهي العقوبة. قال ابن الأنباري: المثلة: العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه. وقرأ الأعمش بفتح الميم وإسكان المثلثة تخفيفاً لثقل الضمة، وفي لغة تميم بضم الميم والمثلثة جميعاً، واحدتها على لغتهم: مُثلة، بضم الميم وسكون المثلثة مثل غُرفة وغُرفات. وحكي عن الأعمش في رواية أخرى أنه قرأ هذا الحرف بضمها على لغة تميم. والمعنى: أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم، وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون بهم، ويحذرون من حلول ما حلّ بهم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أي: لذو تجاوز عظيم {لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك، ورجعوا إلى الله سبحانه، والجارّ والمجرور أي: على ظلمهم في محل نصب على الحال أي: حال كونهم ظالمين، و«على» بمعنى: «مع» أي: مع ظلمهم، وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير؛ لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً، ولهذا قيل: إنها في عصاة الموحدين خاصة. وقيل: المراد بالمغفرة هنا: تأخير العقاب إلى الآخرة ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة. وكما تفيده الجملة المذكورة بعد هذه الآية. وهي {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} يعاقب العصاة المكذبين من الكافرين عقاباً شديداً على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة. {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ} أي: هلا أنزل عليه آية غير ما قد جاء به من الآيات، وهؤلاء الكفار القائلون هذه المقالة هم المستعجلون للعذاب. قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شيء. انتهى. وهذا مكابرة من الكفار وعناد، وإلاّ فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه، وجاء في {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لإنذار العباد، وبيان ما يحذرون عاقبته، وليس عليه غير ذلك، وقد فعل ما هو عليه، وأنذر أبلغ إنذار، ولم يدع شيئاً مما يحصل به ذلك إلاّ أتى به وأوضحه وكرره، فجزاه الله عن أمته خيراً. {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} أي: نبيّ يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم ورشادهم. وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة هذا يأتي بآية أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم، فليس المراد من الآيات إلاّ الدلالة على النبوّة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها، ولا بأفراد معينة. وقيل: إن المعنى {ولكل قوم هاد}، وهو الله- عزّ وجلّ- فإنه القادر على ذلك، وليس على أنبيائه إلاّ مجرد الإنذار. {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته بالعلم سبحانه، وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور المذكورة منه، قيل: ويجوز أن يكون الاسم الشريف خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ولكل قوم هاد وهو الله. وجملة {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} تفسير لهاد على الوجه الأخير، وهذا بعيد جداً، و" ما " موصولة، أي: يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة، أو مضغة، أو ذكر، أو أنثى، أو صبيح، أو قبيح، أو سعيد، أو شقي. ويجوز أن تكون استفهامية، أيّ: يعلم أي شيء في بطنها، وعلى أيّ حال هو. ويجوز أن تكون مصدرية أي: يعلم حملها {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} الغيض: النقص، أي: يعلم الذي تغيضه الأرحام، أي: تنقصه، ويعلم ما تزداده. فقيل: المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص إصبع أو زيادتها. وقيل: إن المراد نقص مدّة الحمل على تسعة أشهر، أو زيادتها، وقيل. إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصاً في ولدها، وقيل: الغيض: ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، و«ما» في {ما تغيض} {وما تزداد} تحتمل الثلاثة الوجوه المتقدّمة في {ما تحمل كل أنثى} {وَكُلُّ شَئ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} أي: كل شيء من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة عند الله سبحانه بمقدار، والمقدار: القدر الذي قدّره الله. وهو معنى قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أي: كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه، لا يخرج عن ذلك شيء. {عالم الغيب والشهادة} أي: عالم كل غائب عن الحسّ، وكل مشهود حاضر، أو كل معدوم وموجود ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعمّ من ذلك {الكبير المتعال} أي: العظيم الذي كل شيء دونه، المتعالي عما يقوله المشركون، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره. ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره شيء منها، بين أنه عالم بما يسرّونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره، وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال: {سَوَاء مّنْكُمْ من أسرّ القول ومن جهر به} فهو يعلم ما أسرّه الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر، وقوله: {منكم} متعلق بسواء على معنى: يستوي منكم من أسرّ ومن جهر، أو سرّ من أسرّ وجهر من جهر {ومن هو مستخف بالليل} أي: مستتر في الظلمة الكائنة في الليل متوار عن الأعين. يقال: خفي الشيء واستخفى أي: استتر وتوارى {وَسَارِبٌ بالنهار} قال الكسائي: سرب يسرب سُرباً وسُروباً إذا ذهب. ومنه قول الشاعر: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم *** ونحن خلعنا قيده فهو سارب أي: ذهب. وقال القتيبي: سارب بالنهار متصرّف في حوائجه بسرعة، من قولهم: أسرب الماء. قال الأصمعي حلّ سربه أي: طريقته. وقال الزجاج: معنى الآية: الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعاً سوّى، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب، فالمستخفي: المستتر، والسارب البارز الظاهر. {لَهُ معقبات} الضمير في «له» راجع إلى " من " في قوله: {من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف} أي: لكل من هؤلاء معقبات. والمعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلاً منه، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض، وإنما قال: معقبات مع كون الملائكة ذكوراً؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها: معقبة، ثم جمع معقبة على معقبات: ذكر معناه الفراء، وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة. قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء. قال الله تعالى: {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ} [النمل: 10] وقرئ " معاقيب " جمع معقب {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: من بين يدي من له المعقبات، والمراد: أن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه. وقيل: المراد بالمعقبات: الأعمال، ومعنى {من بين يديه ومن خلفه}: ما تقدم منها وما تأخر. {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} أي: من أجل أمر الله، وقيل: يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب. قال الفراء: في هذا قولان: أحدهما أنه على التقديم والتأخير. تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، والثاني أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به. قال الزجاج: المعنى: حفظهم إياه من أمر الله أي: مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمرالله. قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر، وهو أن «من» بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله. وقيل: إن " من " بمعنى عن، أي: يحفظونه عن أمر الله، بمعنى من عند الله، لا من عند أنفسهم، كقوله: {أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ} [قريش: 4] أي: عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب. وقيل: يحفظونه من الجن. واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء، على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والعافية {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من طاعة الله، والمعنى: أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها. قيل: وليس المراد، أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما في الحديث " أنه سأل رسول الله سائل فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا} أي: هلاكاً وعذاباً {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} أي فلا ردّ له. وقيل: المعنى إذا أراد الله بقوم سوءاً أعمى قلوبهم، حتى يختاروا ما فيه البلاء {وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم ويلتجئون إليه، فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقاب، أو من ناصر ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله. والمعنى: أنه لا رادّ لعذاب الله ولا ناقص لحكمه. وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك فعجب قولهم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم، وهم رأوا من قدرة الله وأمره، وما ضرب لهم من الأمثال وأراهم من حياة الموتى والأرض الميتة {فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفى خلق جديد} أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد من الخلق من تراب وعظام. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} قال: العقوبات. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في {المثلات} قال: وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {المثلات} ما أصاب القرون الماضية من العذاب. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش: ولولا وعيده وعقابه لاتكل، كل أحد» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} نبيّ يدعوهم إلى الله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: محمد المنذر، والهادي الله- عزّ وجلّ- وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه أيضاً. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنذر وهو الهادي. وأخرج ابن جرير عن عكرمة وأبي الضحى نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، والديلمي، وابن عساكر، وابن النجار عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ}: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: «أنا المنذر»، وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: «أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي» قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب في الآية نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} قال: كل أنثى من خلق الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال: يعلم ذكراً هو أو أنثى {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: هي المرأة ترى الدم في حملها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: خروج الدم {وَمَا تَزْدَادُ} قال: استمساكه. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} قال: أن ترى الدم في حملها {وَمَا تَزْدَادُ} قال: في التسعة أشهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه في الآية قال: ما تزداد على تسعة، وما تنقص من التسعة. وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية {مَا تَغِيضُ الأرحام} قال: السقط {وَمَا تَزْدَادُ} ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهنّ من تحمل تسعة أشهر، ومنهنّ من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله، وكل ذلك بعلمه تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {عالم الغيب والشهادة} قال: السرّ والعلانية. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: {ومن هو مستخف بالليل} قال: راكب رأسه في المعاصي {وَسَارِبٌ بالنهار} قال: ظاهر بالنهار بالمعاصي. وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن عباس {وَسَارِبٌ بالنهار} قال: الظاهر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن سبب نزول الآية قدوم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة، وأنه لما أصيب عامر بن الطفيل بالغدّة نزل قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} إلى قوله: {معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد بن قيس وما قتله، فقال: {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق} إلى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال}. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {معقبات} الآية قال: هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} قال: ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {مِنْ أَمْرِ الله} قال: بإذن الله. وأخرج ابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: وليّ السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، يقول: يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مردّ له. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه في الآية قال: الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، يحفظونه من القتل، ألم تسمع أن الله يقول: {إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} أي: إذا أراد سوءاً لم يغن الحرس عنه شيئاً. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال: هؤلاء الأمراء. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه. وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عن عليّ في الآية قال: ليس من عبد إلاّ ومعه ملائكة يحفظونه من أن تقع عليه حائط، أو ينزوي في بئر، أو يأكله سبع، أو غرق أو حرق، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر. وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث.
|